احسِبها لتُـديرها: دور المحاسبة السليمة في نجاح الشركات المتوسطة والصغيرة في العراق



د. ياس الخفاجي، محاسب قانوني معتمد (الولايات المتحدة الأمريكية)

أُستاذٌ فخريٌ في الجامعة الأمريكية في الشارقة

شريك أقدم في ليدجرز للمحاسبة والتدقيق (تعمل في الإمارات والعراق)


أظهرت الدراسات أنّ أحد أهم مسببات فشل المشاريع الناشئة والصغيرة والمتوسطة (SMEs) هو سوء حفظ السجلات، فوفقاً لمقال مجلة الغارديان-نيجيريا 2016 "تشير الأبحاث أنّ 70% من أسباب فشل الشركات الصغيرة والمتوسطة ترجع لسوء حفظ السجلات". غالباً ما يكون آخر ما يشغل بال رائد الأعمال في مشروع ناشئ أو شركة صغيرةٍ أو متوسطة هو إنشاء وإدامة سجلات محاسبة جيدة. إنّ أصحاب أو مدراء الأعمال هؤلاء مشغولون ومنهمكون في تنفيذ أفكارهم التجارية، وبذلك يبخسون بما يخصصون من طاقة لتطوير نظامٍ سليمٍ للمحاسبة.

غالباً ما تكون فواتيرهم ومصروفاتهم مركونة في صندوق في إحدى زوايا المكتب، ويحاولون في بعض الأحيان إدخالها على ملف أكسل (Excel)، وهذا نادراً ما يحصل. وبسبب سوء التنظيم هذا سرعان ما تواجههم مشاكل تشغيلية بسبب التدفقات النقدية. وتتفاقم المشكلة عندما يحتاجون إلى قروض أو أموال إضافية من المستثمرين المخاطرين، حيث لا يمكنهم تقديم التقارير اللازمة المتوقعة من المستثمرين والمُقرضين. تعتقد هذه المشاريع أنّها يمكنها التعامل مع المحاسبة لاحقاً حين الضرورة، ولكن حينها يكون قد فات الأوان لأنّ الشركة قد تكون آيلة للسقوط. الأمر أشبه بتأجيل زيارة طبيب الأسنان حتى يضرب الألم بالرأس، وحينها قد يكون الأوان قد فات لعلاج السن. 

في أمريكا، حيث عملت مستشاراً للعديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة، يختار أصحاب الأعمال ثلاثة مزودي خدمة قبل إنشاء مشروعهم: محام جيد، ومصرِفيٌ جيد، ومحاسبٌ جيد. المحامي الجيد ليرشدهم من خلال رسمه لأفضل أشكال العمل القانوني ومساعدته لهم في صياغة مستندات التأسيس. والمصرفي المحنك ليُأَمِن قروضاً مناسبة للمشروع ويدير التدفقات النقدية. والمحاسب الدقيق ليشارك في وضع نظام محاسبة مناسب لجمع البيانات وتقديم التقارير المالية لمساعدة أصحاب أو مدراء الأعمال على اتخاذ القرارات الإدارية اليومية المناسبة. 

من إحدى المقولات المشهورة لخبير الإدارة الدكتور بيتر دراكر: "إذا لم تتمكن من قياسه، فلن تتمكن من إدارته". سيقيس نظام المحاسبة المناسب الأنشطة الاقتصادية للشركة ويقدم التقارير المطلوبة لمساعدة أصحاب الأعمال في إدارة أعمالهم. هذه معادلةٌ للنجاح. قد يساهم عدم وجود نظام محاسبة جيد في المراحل المبكرة في فشل العمل التجاري حيث لن يكون لدى أصحاب الأعمال بيانات قابلة للقياس لعرض مدى جودة أداء العمل من حيث الربح أو الخسارة، وما يملك المشروع وكم يدين للآخرين، أو أي فكرة واضحة عن التدفقات النقدية الداخلة والخارجة. 

فلماذا لا يعطي أصحاب أو مدراء الأعمال العراقيون قيمة عالية لإنشاء وإدامة سجلات محاسبية مناسبة؟ وتجدر الإشارة إلى أنّه لا يوجد بحث أُجرِيَ لتقديم دليل تجريبي حول أهلية أصحاب أو مدراء الأعمال العراقيين للاحتفاظ بالتقارير المحاسبية المناسبة واستخدامها. ولذلك سأناقش بإيجاز بعض الأسباب بناءً على الأدلة المتواترة وملاحظاتي الشخصية. 


أولاً، يعتقد أصحاب الاعمال أنّهم يعرفون أعمالهم دون توثيقها في نظام محاسبة رسمي. بدلاً من ذلك، المعلومات موجودة في رؤوسهم أو على ظهر ظرف ما. في النتيجة، فهم يعرفون مقدار النقد الذي حققه المشروع التجاري، والمبلغ المستخدم، والمقدار المتبقي في متناول اليد. رغم أنّ معرفة التدفقات النقدية أمر ضروري لأي عمل حيث أن النقد هو سيد اللعبة، فإن نظام المحاسبة المناسب سيوفر معلومات إضافية. يجب أن تتضمن المعلومات المقدمة مدى جودة أداء الأعمال من خلال بيان الربح أو الخسارة، ومقدار ما لها من أملاك، وما عليها من ديون، ومطالبات المالكين من خلال الميزانية العمومية، وبالطبع معلومات حول مصادر واستخدامات التدفقات النقدية من خلال بيان التدفقات النقدية. 

هذه مجتمعة تسمى البيانات المالية. على الرغم من أنّ البيانات المالية تخبر الكثير عن الأعمال التجارية، إلا أنّ المزيد من التحليل الذي يجريه الخبراء يمكن أن يروي المزيد عن قصة الشركة. يمكن للمحاسب المحترف المُدَرب تحليل هذه البيانات وبذلك يقدم نظرة ثاقبة على نقاط القوة والضعف في الأعمال التجارية، مثل إجمالي الربح، والبيع والنفقات الإدارية، وصافي الربح أو الخسارة، والتعادل، والتكاليف غير المباشرة، والتكلفة الثابتة والتكلفة المتغيرة، مستوى السيولة ومستوى الاستفادة المالية والعائد على الاستثمار وما إلى ذلك. 

بالطبع، لن يكون مثل هذا التحليل ممكناً دون الاحتفاظ بمجموعة مناسبة من السجلات المُحَدَثة باستمرار وعلى أساس دوري كان يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً. بالإضافة إلى ذلك يمكن للمحاسب المحترف المُدَرَب تصميم ووضع نظام رقابة داخلي مكين خاصة بوجود موظفين، يدير هذا النظام على سبيل المثال الفصل بين الواجبات وحماية الأصول مثل النقد والمعدات والمخزونات.


ثانياً: التأثير السلبي للنظام المحاسبي الموحد العراقي الذي يشوبه الغموض. بوشِرَ العمل بهذا النظام في الثمانينيات ليتوافق مع نظام المحاسبة الحكومي العراقي وهيئة الضرائب. ومع ذلك، فإن هذا النظام غير مفيد لأصحاب الأعمال لإدارة أعمالهم. رغم المحاولات العديدة التي قام بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لاستبدال هذا النظام بالمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS)، لم تتبنى الحكومة العراقية والشركات المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية. 

جزء من المشكلة هو أن المحاسبين المهنيين العراقيين غير مدربين على المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية، وبالتالي ينفرون منها. المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية هي السبيل للمضي قدماً لإصلاح ممارسات ومهنة المحاسبة في العراق، وتمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة، وجذب المستثمرين الأجانب حيث تشترط هذه المعايير تقديم معلومات محاسبية وفقاً للمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية. اعتمدت أكثر من 160 دولة وسلطة المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية. إذا كانت المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية جيدة بما يكفي لـ160 دولة، فيجب أن تكون جيدة بما يكفي لكي يتبناها العراق على وجه السرعة.

ثالثاً، تتجنب العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة عن قصد الاحتفاظ بالدفاتر الصحيحة المعتمدة من المحاسبين المحترفين لتجنب معول مُقيِّم الضرائب. ونتيجة لذلك يخفي العديد من أصحاب أو مدراء الأعمال إيراداتهم الفعلية أو يُظهرون دخلاً مصنّع. هذا بالتأكيد ليس غير قانوني فحسب، ولكنه سيخلق ثقافة الفساد التي تورط مجتمع الأعمال والمحاسبين المحترفين على حد سواء. سيبحث العديد من أصحاب أو مدراء الأعمال عن محاسبين يمكنهم مساعدتهم في خداع مُقيِّم الضرائب.

وبالطبع يقع جزء من اللوم على هيئة الضرائب، حيث أن الصورة في عين مجتمع الأعمال هي أن القواعد واللوائح الضريبية غير مفهومة وتعسفيةٌ ومجحفةٌ وغير عادلة. ويرى مجتمع الأعمال أن ما يزيد الطين بلةً هو غياب إجراءات قانونية للطعن في رأي مُقيِّم الضرائب، أو امكانية أن يأخذ حل هذه المشاكل سنوات عديدة. ويرى مجتمع الأعمال أن وكلاء الضرائب عدوانيين، ولا يفهمون أعمال المالكين وبعضهم ببساطة فاسدون فساداً تاماً. 


ما الحل؟

لا يعرف العديد من أصحاب الأعمال من أين وكيف يحصلون على أو ينشؤون نظام محاسبة سليم. تتمثل الخطوة الأولى في العثور على محاسب محترف يفهم ويتعامل مع المشاريع الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة. سيساعد مزود الخدمة هذا في تقديم المشورة وتوجيه الشركات الصغيرة والمتوسطة في إعداد مخططات الحسابات، وترحيل البيانات من المستند المصدر، باستخدام ملفات أكسل (Excel) أو أي برنامج محاسبة آخر. يمكن لهذا المحاسب الخارجي أن يعمل بصفة مديرٍ مالي خارجي للشركة.

ثانياً، رقمنة نظام المحاسبة بالكامل. وقد لا يكون هذا الأمر مكلفاً إلى حدّ ما حيث يمكن تثبيت وإدامة عدد لا يحصى من برامج المحاسبة السحابية بسهولة. تتمثل ميزة النظام السحابي (cloud-based system) على الحاسوب المكتبي في أنّ النظام المستند إلى السحابة أكثر أماناً حيث يتم تحديث البيانات وحفظها على الفور على خوادم آمنة يمكن الوصول إليها من أي جهاز في أي مكان في العالم، مما يوفر مرونة أكبر في الوصول إلى البيانات من جهاز كمبيوتر مكتبي أو محمول أو هاتف ذكي. وايضاً يمكن لأكثر من مستخدم الوصول إلى البرنامج في وقت واحد بمستوى تفويض مختلف. يمكن للعديد من هذه البرامج القيام بعدة مهام ومنها:

  • عمل الفواتير.
  • التسويات المصرفية وبطاقات الائتمان.
  • المدفوعات.
  • الذمم المدينة.
  • إعداد الحسابات الختامية.
  • الأصول الثابتة.
  • عمليات الجرد.
  • الاستثمارات.
  • القروض المصرفية.
  • الإيرادات والمصروفات.


الملخص والاستنتاجات

ليس من أولويات المشاريع الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة مسك نظام محاسبة مناسب حيث يعتقد اصحابها أن المحاسبة أمرٌ يُمكن أرجائه حتى ينطلق العمل ويعمل بنجاح. أظهرت التجربة أن ذلك خطأٌ فادح للعديد من هذه الأعمال، فهم كما لو كانوا يمشون مُكبين على وجوهِهم في طريقٍ معتم.

لكي تحسن هذه الشركات من فرص نجاحها، فإنّها تحتاج إلى الانخراط في استراتيجية الإدارة عن طريق القياس. سيؤدي استخدام معلومات دقيقة وذات صلة في الوقت المناسب إلى تعزيز قدرة أصحاب الاعمال على توجيه أعمالهم نحو الربحية والحصول على المزيد من التمويل من المستثمرين والمصارف. تحتاج المشاريع العراقية الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة إلى الاستثمار في نظام محاسبة رقمي بسيط وكافٍ يقوم على إدارته محاسب داخلي يشيره محاسب خارجي محترف. ومع ذلك، يوجد في العراق عدد قليل من المحاسبين المحترفين المُدَربين الذين يمكنهم تقديم المشورة للمشاريع الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة حول كيفية إنتاج معلومات دقيقة في الوقت المناسب متوافقاً مع المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية. التعليم المهني في العراق متجذر في نظام المحاسبة الموحّد، والذي لم يُصمم لتوفير المعلومات لأغراض اتخاذ القرارات الإدارية. لذلك هناك متسع كبير للمحاسبين المحترفين لمساعدة المشاريع الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة.

في شركة ليدجرز للمحاسبة والتدقيق، تتمثل فلسفتنا في تمكين أصحاب أو مدراء الأعمال من تولي مسؤولية أعمالهم من خلال التأكيدات والاستشارات والتدريب والدعم الخارجي. نحن نساعد في رقمنة وظيفة المحاسبة، وتقديم الدعم للمحاسب الداخلي للشركة، ونساعد ايضاً في شرح التقارير المالية لإسناد أصحاب أومدراء الأعمال في إدارة أعمالهم بفعالية وكفاءة. إذا كانت الشركة متوسطة الحجم، فسنساعد في تصميم وتنصيب نظام رقابة داخلي رقمي على عمليات الشركة لتوفير كفاءة وفعالية العمليات، وأيضاً لإنتاج حسابات دقيقة وفي الوقت المناسب، وضمان الامتثال للقوانين واللوائح، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر قوانين الضرائب والعمل.


لقراءة النسخة الانكليزية من هذا المقال

لقراءة الاصدار السابع من المجلة كاملا

Posted in on Monday, 17th October, 2022