عراقٌ معفي من العقوبات الاقتصادية: الوضع الجديد في النظام المالي الدولي

عبدالعزيز العطار

خبير في العمليات المصرفية الدولية


مضى 32 عاماً منذ أن واجه العراق عقوبات اقتصادية شاملة من السلطات الدولية لأول مرة نتيجة حرب الخليج. كان تأثير هذه العقوبات على الدينار العراقي كارثياً، إذ أنّها أدت إلى سقوط العملة وشلِّ الاقتصاد المحلي بل وكادت التجارة الدولية أن تتوقف. كان العراق يواجه أزمة اقتصادية، لذلك سارعت الحكومة السابقة إلى إيجاد حلول مؤقتة لوقف هذا النزيف الاقتصادي في البلاد.

أما الآن في عام 2022، فقد احرز العراق تقدماً كبيراً بخصوص رفع العقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليه سابقاً، حيث باتت البلاد مرةَ أخرى مفتوحة للأعمال التجارية الدولية والتجارة والتبادل التجاري، كما أضحت عضواً من أعضاء النظام المالي الدولي.


العمليات المصرفية

نظراً لتزايُد الاستقرار السياسي في البلاد، فقد انجذبت العديد من المصارف الأجنبية لإقامة وجود مادي لها في العراق. فعلى سبيل المثال، وفقاً لآخر بيانات صدرت عن البنك المركزي العراقي، ثمة 14 مصرفاً أجنبياً من أصل 74 مصرفاً يعملون في العراق. ونتيجة لذلك، فقد تزايد تفاؤل المؤسسات المالية في السوق العراقية مما حملها على إنشاء فروعٍ لها في كلٍ من شمال العراق (أربيل) ووسط العراق (بغداد). وقد مكَّن تخفيف العقوبات الاقتصادية هذه المؤسسات المالية المرموقة من إنشاء شبكات فروعها في البلاد وتوفير مجموعة كاملة من المنتجات المصرفية، الأمر الذي أسهم في تنمية رأس المال البشري في البلاد وخلق وظائفاً إضافية في مجال الخدمات المالية.

وإلى جانب المصارف التي تعمل فعلياً في العراق، فإنّ هناك عدداً متزايداً من المصارف الدولية المستعدة لتقديم خدماتها المصرفية من خارج البلاد إلى الشركات العاملة داخل البلاد. لم يكن هذا الأمر ممكناً في ظل العقوبات الاقتصادية الشاملة السابقة، حيث كان من المستحيل تقريباً تيسير الخدمات المالية في العراق.

لقد ازدادت الخدمات المصرفية مع المزيد من المصارف المراسلة المستعدة لتسوية المعاملات العابرة للحدود للمدفوعات القادمة من العراق، مما يسهل التجارة مع النظراء الأجانب. كما أدى تخفيف العقوبات الاقتصادية إلى تسوية المعاملات بسرعة أكبر وبتكاليفٍ احتكاكية أقل، مما يجعل التعامل في الخارج أرخص. ولسوء الحظ، فإنّ الصورة ليست إيجابية بمجملها، حيث يحدُّ العراق عددٌ من البلدان عالية الخطورة، من منظور العقوبات الاقتصادية، التي ما تزال تخضع لنظام عقوبات اقتصادية شامل. فما معنى هذا بالنسبة للعراق؟

معنى ذلك أنّ المصارف العاملة في البلاد سَتسعى للتأكد من أنّها لا تقدّم مدفوعات عابرة للحدود بالدولار الأمريكي للكيانات أو الأفراد أو الشركات المشمولة في هذه العقوبات. ومن أجل حماية النظام المالي، يتعيّن تهيئة بيئة مراقبة ملائمة وتطبيق إجراءات عناية واجبة معززة في نظم الدفع وشبكة سويفت لضمان الامتثال الكامل للعقوبات الاقتصادية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي ومكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) والأمم المتحدة ومكتب تنفيذ العقوبات المالية (OFCI). ومن جانبٍ آخر، ما يزال عدد من الأفراد الذين يعيشون في العراق مدرجين في قوائم العقوبات العالمية لأسباب مختلفة من أبرزها انتمائهم إلى المنظمات الإرهابية. يجب أن يظل الأفراد ذوو الصلة خارج النظام المالي العالمي، في حين يقع الخط الأول للمسؤولية الدفاعية على عاتق المصارف العاملة في العراق والمصارف المراسلة التي تقدم خدمات المقاصة بالدولار الأمريكي للمصارف الموجودة في البلاد.

ومن الجدير بالذكر أنّ المصارف العاملة داخل العراق قد اتخذت عدة تدابير في السنوات الأخيرة لضمان الامتثال للأنظمة المحلية التي فرضها البنك المركزي العراقي والسلطات الدولية التي تفرض عقوبات اقتصادية على العراق. ونتيجة لذلك، تحسنت بيئة المراقبة داخل الصناعة المصرفية، كما أنّ هنالك وعيٌ متزايد بكيفية الامتثال للعقوبات الاقتصادية الدولية. فضلاً عن ذلك، فقد تطور رأس المال البشري وبدأت المصارف الدولية عدداً من البرامج التدريبية التي تستهدف المواهب العراقية العاملة في الصناعة المصرفية المحلية لبناء المزيد من القدرات.


الاستثمار الأجنبي المباشر

لطالما كان العراق وجهة جذابة للاستثمار الأجنبي المباشر نظراً للاحتياطيات النفطية الهائلة في البلاد والتاريخ التجاري الغني الذي يعود إلى العصر البابلي. ومع ذلك، أدت حرب الخليج إلى وقف سريع للاستثمار الأجنبي المباشر وفقدت صناديق التحوط الدولية وصناديق الثروة السيادية رغبتها الاستثمارية في العراق منذ عام 1990.

وبالنظر إلى انتعاش الاقتصاد وتخفيف العقوبات الاقتصادية الدولية وتزايد الاستقرار السياسي، فقد استؤنف الاستثمار الأجنبي المباشر مرة أخرى. وقد أوصت الصناديق الكبرى من الاقتصادات الآسيوية والغربية مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة باستثماراتها داخل العراق بهدف إعادة بناء البلاد. كما استأنفت الشركات الصينية والكورية الجنوبية مشاريعها المعنية بتمويل المشاريع المدعومة بصورة أساسية من مصارف التصدير والاستيراد الدولية. إنّ رؤية بنك التصدير والاستيراد الكوري (KEXIM) والهيئة البريطانية لتمويل الصادرات (UKEF) يستأنفان دعم تمويل المشاريع في العراق يوفر راحة كبيرة للمستثمرين المحتملين الذين يفكرون بالاستثمار في مشاريع داخل البلاد.


رقمنة الخدمات المالية

يمكن القول أنّ عصرنا الحالي هو أفضل عصر لرقمنة الخدمات المالية في البلاد وإنشاء أول شركة أُحادية القرن  للتكنلوجيا المالية في العراق. فمع تزايد عدد الشباب وارتفاع معدل استخدام الهاتف المحمول نسبياً، أصبح السكان العراقيون مستعدون لمزود خدمات دفع فعال (PSP) يلبي احتياجات جميع السكان. وقد أدى رفع العقوبات الاقتصادية إلى تسهيل سداد المدفوعات المحلية، أي أنّه بسبب زيادة توافر التكنولوجيا في البلاد وزيادة العرض فيما يخص الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية فقد أصبح تمكين الشعب العراقي من الشروع في تسديد المدفوعات وتلقيها بسرعة على الصعيدين المحلي والخارجي إمكانية حقيقية في ظل العصر الاقتصادي الجديد.

إنّ مفاهيم الخدمات المالية الحديثة مثل التمويل اللامركزي (DeFi) وتداول الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) والخدمات المصرفية المفتوحة وسلسلة الكتل (Block Chain) باتت كلها متاحة بسهولة ومتوفرة في الاقتصاد المحلي. ومما يبعث على التفاؤل رؤية العراقيين الأصغر سناً الذين باتَ بإمكانهم الوصول إلى بورصة العملات المشفرة على مستوى العالم، فضلاً عن الاستثمار في العملات المشفرة والأصول دون قيود العقوبات الاقتصادية الشاملة. إنّ توافر هذه الخدمات المالية سيدفع المزيد من الإمكانات الاقتصادية في البلاد ويضع الجيل العراقي القادم على المنصة الدولية. يمكن للشباب العراقي الآن المساهمة في بيئة الأعمال المتنامية لسلسلة الكتل والقيام بالتعدين في العراق، فضلاً عن إنشاء كتل جديدة داخل سلسلة الكتل. كما أنّ الفنانين الطموحين باتوا قادرين على التعبير عن عواطفهم وصنع لوحاتهم الفنية على شكل رموز غير قابلة للاستبدال (NFTs) بهدف تقديم أعمالهم الفنية للعالم من خلال أسواق (NFT) الدولية.


العقوبات الاقتصادية – رُبّ ضارةٍ نافعة

كانت العقوبات الاقتصادية الشاملة ضارةً نافعة للشباب العراقي المولود في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث علمت العقوبات هذا الجيل المرونة والصبر وزودتهم بالعقلية اللازمة للتغلب على الشدائد من أجل تحقيق الرخاء. لقد علمت العقوبات هذا الجيل أن يتقبّلوا المشقة ويصبحوا مستقلين بصورة متزايدة، فضلاً عن اعتمادهم على اقتصادهم العراقي المحلي. بالإضافة إلى أنّها أنجبت رواد أعمالٍ اضطروا إلى ابتكار أفكارٍ جديدة للبقاء وكسب القوت لإطعام أسرهم. إنّ هذه العوامل مجتمعة ستساعد المواهب العراقية على تحقيق ميزة تنافسية مستدامة عند إطلاق مشاريعها الريادية مقارنة بالشباب المولودين في البلدان المتقدمة الأخرى.


الخاتمة

لقد فتح العراق أبوابه مرة أخرى للتجارة الدولية والأعمال التجارية والتبادل التجاري. كما أصبحت الخدمات المصرفية والمنصات متاحة بصورة متزايدة، فضلا عن إقامة العديد من المصارف الدولية وجوداً مادياً من خلال افتتاح فروعها في البلاد. لقد أصبحت قائمة المصارف الراغبة في تقديم الخدمات المصرفية داخل العراق من الخارج أكثر شمولاً، كما عاد الاستثمار الأجنبي المباشر من الصناديق العالمية العاملة في الشرق والغرب إلى الصعود.

ما يزال العراق في وضع مثالي لعصر رقمنة الخدمات المالية الاقتصادي الحالي، كما أنّه عاد إلى المنصة الدولية مع الوصول الكامل إلى العملات المشفرة والبورصات. إنّ هناك فرصة متزايدة لإنشاء شركات أحادية القرن للتكنولوجيا المالية داخل البلاد، حيث سيكون التوافر المتزايد لرأس المال البشري في الخدمات المالية عاملاً تمكينياً رئيساً. هذا ويمكن للمرء أن يستنتج أنّ العقوبات الاقتصادية الشاملة التي فُرضت على العراق منذ عام 1990 كانت ضارةً نافعة للجيل العراقي الجديد الذي طور عقلية قوية لتحقيق الرخاء وإيجاد أفكار ريادية جديدة داخل العراق.


لقراءة النسخة الانكليزية من المقالة

لقراءة المجلة كاملة

Posted in on Wednesday, 9th November, 2022